بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة الشيخ جلال الدين الصغير

المقدمة



 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على نبي الرحمة ومنقذ الأمة المبعوث رحمة للعالمين وخاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد المصطفى وعلى الهداة الميامين من أهل بيته الطيبين الطاهرين لا سيما بقية الله في الأرضين الحجة بن الحسن العسكري عجل الله فرج الشريف.

في مباحث الإمامة عادة ما يجري الحديث عن إثبات الإمامة، وقد سبر مؤلفوا الشيعة زادهم الله شرفاً أغوار هذا المبحث، حتى لم يبقوا لمحتجّ حجّة لو أراد الحقيقة بعيداً عن العناد واللجاج، وقد كانت أبحاثهم تتلاءم مع ظروف عصورهم وطبيعة اتجاهات الوعي فيها، وهم قد أدوا مهمتهم في هذا المجال على أحسن وجه، بالرغم من عناد مخاصميهم وشدّة الضغوط النفسية والسياسية والاجتماعية التي مرت عليهم وفي عصور شتى.

غير أن مبحث الإمامة لا يتوقف عند مسألة إثبات الإمامة، والحقيقة أن مسألة الإثبات هي العملية الأسهل في مباحث الإمامة، إلّا أن مباحث معرفة الإمامة ظلت مركونة في الكثير من الأحيان طي الطبقات الخاصة من الباحثين هذا إن بحثت، وأعني بمباحث معرفة الإمامة التعرف على الإمام لا من واجهته الخارجية، بل هو التوغل إلى مضمونه الداخلي، ونحن وإن كنا نتحدث عن خلافته لله تعالى في أرضه، وولايته، وعصمته، وعلمه، وعدالته، وأمانته، وحكمته، وشهادته، وطهارته، وحضوره الشمولي.. وما إلى ذلك من مفردات نجدها تأخذ حيزاً كبيراً جداً من المنهج التربوي العقائدي لأئمتنا عليهم السلام لشيعتهم، ولكن مما لا ريب أن الحديث عن هذه الأمور في الغالب لا يماس إلّا الألفاظ، ولا يدخل إلى الأعماق الخاصة بكل مفردة من هذه المفردات، بالرغم من عدة محاولات جادة بدأنا نتلمسها في الفترة الأخيرة من قبل بعض العلماء والباحثين، إلّا أن الجو الفكري العام لا زال بعيداً عن هذا المضمار.

فعلى سبيل المثال نقرأ في الزيارة الشريفة قوله عليه السلام: "السلام عليك يا خليفة الله في أرضه"، وسرعان ما تنساب إلى أفكارنا وبسلاسة وعفوية فكرة خلافة الإمام لله على الأرض، ويتلقفها كل إنسان بمقدار وعيه، ولكن الأسئلة الجادة في هذا المضمار تبقى بانتظار الباحثين لكي يكشفوا ستر أجوبتها، فمالمقصود بالخلافة؟ وكيف ينالها الإمام؟ وما هي أسباب وجودها في شخصية الإمام العقائدية، وما المترتبات التي تتلازم معها؟ فضلاً عن طبيعة الإستدلال عليها، ومثل الخلافة الأمور الأخرى التي أشرنا إليها.

وإني أحسب أن هذه المباحث بالرغم من أن الاضطلاع بها ليست مهمة سهلة، إلّا أن الوعي الاجتماعي دخل في طور جديد، فمن جهة ما عاد المجتمع في وسائل تلقيه مغلقاً ضمن بيئته الخاصة، ففي ظل تحول العالم إلى قرية صغيرة أصبح مجتمعنا مفتوحاً أمام كل الأفكار والثقافات، وبالنتيجة فإن تلك السلاسة التي أشرت إليها في السابق لا يمكن أن يتلقاها من يسمع بها بنفس الطريقة التي تربينا عليها، مما سيفتح المجال لأسئلة كثيرة ستبقى عصية على المؤمنين، وما لم يضطلع العالم بتأصيل هذه الأفكار وتقعيدها فإن هؤلاء المؤمنين ربما سيكونون أمام استحقاقات تصدي الغلاة أو سخرية النواصب أو أمواج الحيرة والتشكيك، ومن جهة أخرى فإن ظروف الوعي الاجتماعي والسياسي ما عاد كما كان في السابق لكي يخشى الباحث اتهامه بما كان الجو الاجتماعي يستقبل به مثل هذه الأبحاث، كما أن إدراكات المؤمنين قد نمت بحمد الله ووعيهم الاجتماعي والسياسي قد ازداد ومتطلباتهم الفكرية نتيجة لذلك باتت بأمس الحاجة إلى مثل هذه الأبحاث.

ولئن قدّرنا طبيعة الهجمة الشرسة التي يتعرّض لها التشيع بعد أن تحولت المجتمعات الشيعية وإفرازاتها السياسية إلى لاعبين أساسيين في المعادلات الإقليمية والدولية، فإن المواجهات المطلوبة لن تكون منحصرة في الساحة السياسية لأننا نشهد وعلى سبيل المثال أن المكتبة الوهابية استطاعت خلال فترة الثمانينات والتسعينات أن تلقي بالعديد من صديد ثقافتها وأفكارها، ولكن هذا الصديد بل القيء الفكري للوهابية تطور آلاف الأضعاف خلال العشرة الأولى من سني هذا القرن، وبالرغم من أن هذا التطور لا يعبّر إلّا عن أزمة الفكر الوهابي نفسه، بعد أن أثبتت التجارب الميدانية تقدم حركة الاستبصار في المجتمعات غير الشيعية بوتائر عالية جداً حتى ما عادت لعواطف الكثير من علماء الآخرين إلّا أن يطلقوا صرخات عالية نتيجة لهذا التقدم، إلّا أنه في عين الوقت يحتاج من العالم الشيعي أن يهتم بتقوية وتحصين ما أعبّر عنه بـ (شيعية الشيعة) ولن يكون هذا الأمر إلّا بالنزوع إلى مباحث الإمامة وتأصيل ما لدينا من أفكار ومفاهيم اعتنى الأئمة صلوات الله عليهم كثيراً بها، لا سيما أئمة الدور الثالث[1] من الأئمة عليهم السلام وأعني بذلك الرضا والجواد والهادي منهم (صلوات الله عليهم). 

وقد كنت في كتبنا المنشورة سابقاً[2] قد تطرقت إلى عدد من هذه المفاهيم، وهي وإن كانت رداً على تيار الإنحراف البيروتي، إلّا أنها كانت مهتمة بالأصل بتأصيل المفاهيم التي تعرضنا لها ومحاولة تسليط الضوء عن بعض ما للمعصوم عليه السلام من مؤهلات، وسنتابع في هذا الكتاب نفس التوجه في تلك السلسلة من الأبحاث إن شاء الله تعالى.

ومشروع الكتابة في مبحث ضرورة الإمامة ومهامها ليس مشروعاً جديداً كما يعرفه من كان يطالع سلسلة أبحاثنا، بل كان مشروعاً قديماً كنت قد شرعت فيه قبل صدور كتابي "الإمامة ذلك الثابت الإسلامي المقدّس" في أواخر القرن الماضي، ولكن  كنت أجّلته بسبب الظروف التي عشناها إبّان الصراع مع تيار الإنحراف البيروتي في التسعينات، والتي أقنعتني أن الصراع بحاجة إلى كتابات أكثر اختصاراً وأقل عمقاً، ثم جاءت أحداث ما بعد سقوط النظام الصدامي المجرم واستلبتني بعيداً ـ لضرورة  أكثر ما هي رغبة ـ من الأجواء الفكرية إلى أجواء السياسة، وكان ما كان حتى آلت الأمور إلى أن نعود بحمد لله إلى هذه الأجواء لأجد الحاجة لا زالت على أشدها للتوغل في أبحاث الإمامة والتعريف بمهامها التي بقيت في الكثير من الأحيان مجهولة حتى للكثير من الباحثين في مجالها، فضلاً عن بقية الناس.

وكما أشرت سابقاً فإن الساحة الفكرية ونتيجة لعوامل عديدة بقيت أسيرة لمباحث إثبات الإمامة، وهي مباحث لاشك في أنها لعبت أدواراً في غاية الأهمية لتطوير وعي المجتمع الذي تعنيه هذه المباحث، إلّا أن غالبية هذه المباحث ونتيجة لظروف الصراع الفكري والاجتماعي بقيت عند حدود ما أسميه بمعادلة الواحد والثلاثة، فأهل السنة بأشاعرتهم[3] وماتريدييهم[4] وسلفييهم منقسمون: هل يقدّمون الخلفاء الثلاثة على الرابع منهم، أو يقدمون الإثنين الأوليين على الرابع؟ مع حفظ فوارق الاختلاف بينهم، ومعتزلتهم كانوا حريصون على إباحة إمامة المفضول الأول والثاني والثالث على الفاضل الرابع، فيما ظل فريق كبير من الباحثين الشيعة يستدلّون على إمامة الرابع دون الثلاثة الأول.

وها أنت ترى أن كل الحديث يجري بناء على معطيات الواقع الذي أفرزته سقيفة بني ساعدة وفي حدود  معركة كرسي الحكم، وليس بناء على معطيات التشريع، إذ أن مباحث التشريع بعيدة كل البعد عن هذا الترقيم الذي اصطنعته وقائع الصراع على النفوذ السياسي، فهذا الترقيم كان سيبقى بهذه الصورة حتى لو تبدّلت الشخوص والأعداد، فلو أفرز الواقع غير أبا بكر وعمر وعثمان من ساسة ذلك الزمن، وغير أمير المؤمنين عليه السلام، فسيبقى السجال أيضاً في حدود ما يفرزه ذلك الواقع، زاد الرقم أو قل، واختلف الأشخاص أو لم يختلفوا،  بينما حديث التشريع مختلف تماماً، فهو يأتي لكي ينظّم الواقع ويهيمن عليه، لا لكي يأخذ من الواقع ويبرره.

فما أحيطت به المذاهب من هالة التشريع إنما جاء ضمن ثقافات التبرير لما جرى، وليس للحكم على ما جرى وتقييمه، ولذلك فإنك تجد أن الكثير مما أدخل في هذا الباب في عدالة الصحابة وزندقة كل من لا يرتضي أفعالهم، وشؤون أمهات المؤمنين، وأمور الإمارة والشورى، وإمامة الغالب، وعلاقات الوالي مع الموّلّى عليه، وأحكام الإرث والوصية والصلح والجهاد وما إلى ذلك كانت قد قننت بناء على معطيات ذلك الواقع، وليس بناء على متطلبات التشريع الرباني، وقد فسحت حالة تحريم تدوين السنة من قبل أبي بكر وعمر والتي امتدت إلى عهد عمر بن عبد العزيز إلى تزوير وثائق كثيرة تبرر لما جرى، وتجعله ضمن هذه المتطلبات، ولعل ما كشفه عبد العزيز بن مروان بن الحكم لأبنه عمر بن عبد العزيز يعطينا صورة ما حصل يقول عمر بن عبد العزيز: نشأت على بغض علي لا أعرف غيره، وكان أبي يخطب فإذا ذكر علياً نال منه فلجلج،[5] فقلت: يا أبه إنك تمضي في خطبتك فإذا أتيت ذكر عليّ عرفت منك تقصيراً، قال: أفطنت ذلك؟ قلت: نعم. قال: يا بني إن الذين من حولنا لو نعلمهم من حال علي ما نعلم تفرقوا عنا.[6]

إذ من الواضح أن إخراج هذا الواقع من إطار المعادلة السياسية بما عرفت من خداع واكاذيب إلى المعادلة التشريعية التي لا تعرف كل ذلك سيجعل أعمدة هذه الأحكام متزلزلة بشكل تام، ومن ثم لتعرف أي خديعة جرت في الإلحاح على هذه المباحث دون ما هو أعمق منها.

ويرينا كل ذلك أن هذه المباحث إنما جاءت لتقفز على هذه الحقيقة أو تخفيها، ومن ثم لتفسح المجال لثقافة التبرير، والتبرير المضاد، وقد آن الأوان لكي نعيد ترتيب أوراق البحث في مبحث الإمامة،[7] ونرجع الأمر إلى نصابه، وفي تصوري إن الخطوة الأولى التي يجب أن تتخذ في هذا المبحث تجريده من أي اسم شخصي، لأن الإمامة ليست موضوعاً بشرياً حتى يمكن لنا أن نقيسها على البشر ونفصّلها بناء على معطيات فلان أو فلان مهما عظم شأنه، وإنما هي أمر إلهي، وعليه فإنّ أي بحث ينشد الإمامة من دون التعرف على مواصفاتها ومؤهلاتها وشروطها كما طرحها القرآن الكريم، يجعله خلياً من الجدية في التعامل مع أمر هو في غاية الحساسية والأهمية.

وهذه المنهجية لا تعيننا على فهم الأمر كما جاء من قبل النص القرآني فحسب، وإنما تلقي عن أنفسنا كاهل الضغط المذهبي، وبالتالي تسهّل لنا إدراك المصداق الإجتماعي للوصف القرآني، فالقرآن الكريم لم يطرح أي أمر لكي يبقيه في عالم التجريد النظري،[8] وإنما لا شك وأنه يهدف به إلى توجيه الأنظار نحو مصداقه الاجتماعي، لأن هذا المصداق هو الفاعل في حراك عملية الهداية الربانية التي هي سر وجود الأنبياء صلوات الله على نبينا وآله وعليهم أجمعين وكذا كتبهم وصحفهم، إذ أن معرفة مواصفات الشيء وشروط تحققه ومؤهلاته كفيلة في أن تجعل تشخيص مصداقه سهل، لأنه لن يرتبط بالأسماء فيختلف الناس عليها، وإنما يرتبط بمواصفات من شأن تحريها أن تدلّنا عليها، إنها مثل ما أسميه تبسيطاً بنظرية "حذاء سندريلا"، ففي هذه القصة الطفولية تم طرح مبدأ عقلي في غاية الأهمية، فحيث غاب المصداق لشخص سندريلا، ولم يتم التعرّف على أيّها من بين النساء، كان من العقل أن يترك لمواصفات قدم سندريلا أن تكشف هويتها، فهذه القدم لا يشبهها إلّا قدم سندريلا نفسها، كذلك في مبحث الإمامة فإن الله تعالى حينما يتحدّث عن الإمام لا يتحدّث عن ملايين الأئمة من الناس، بل عن الواحد في كل زمن، والعثور على الواحد من بين الملايين أمر من شأنه أن يثير الكثير من الخلاف والاختلاف، حتى مع وجود الأنبياء والمرسلين، خاصة وأن مغريات هذا المقام تثير هوى الكثير من باحثي التسلّط والتوجّه، وما بين يدينا من محصلة تاريخية لمجريات ما بعد استشهاد الرسول صلوات الله عليه وآله تكفي للتعرف على طبيعة التداعيات الخطرة التي تنجم من عدم اعتماد المواصفات كسبيل للتعرف على الإمام، وها هم علماء الكلام في كل الفرق يقرّون بأنه ما اختلف المسلمون بأمر كما اختلفوا بالإمامة، بل هي بوابة كل الاختلافات التي حصلت،[9] ومن ثم أطاحت بكل آمال الرسول صلوات الله عليه وآله في إيصال أمته إلى بر الهداية التي لا ظلم من بعدها.

وبهذا ستكون مهمتنا في هذا البحث في الفصول الأولى التعرّف على مواصفات الإمامة ومهامها ومؤهلات الإمام من خلال ما طرحه القرآن الكريم والمتسالم عليه من السنّة المطهّرة، ولن نتكبّد الخوض في الجدل المذهبي إلا ما ألجئتنا حاجة البحث إليه، ومن الطبيعي أن نقدّم بين يدي ذلك بحثاً في معنى الإمامة اللغوي والاصطلاحي لأنه سيعيننا على تحديد مهمة البحث وتأطيرها.

أما  في الفصل اللاحق فسنهتم بمتابعة مهمة العثور على المصاديق الإجتماعية للإمامة في مجتمع ما بعد رسول الله صلى الله عليه وآله على وفق ما انتهينا إليه من مباحث الفصل الأول.

وفيما يليه من فصول سنتوقف للبحث في ضرورة الإمامة والإمام وثباتها في قبال من يتحدّث عن انتفاء الحاجة إليها، ونعالج عدة مشاكل تعترض هذا البحث قسم منها يتعلق بما إذا كانت الإمامة ثابتة أو متحولة في الفكر الإسلامي، أو بطبيعة فوائد وجود الإمام التطبيقية إذ يطرح البعض جدوى الاعتقاد بالإمام المهدي عليه السلام وهو غائب، أو ما يشار إليه من طبيعة ما قدّمه الأئمة الإثني عشر صلوات الله عليهم للمجتمع الإسلامي من إنجازات حضارية في قبال ما قدّمه أعداءهم!

ولا يفوتني أن أشير إلى أن هذه المباحث بعضها كنت قد كتبته أو ألقيته في جوار السيدة زينب صلوات الله عليها في دمشق الشام، والبعض الآخر ألقيته على شكل محاضرات خاصة وعامة على بعض أحبتنا في جامع براثا ببغداد، وهو يشكّل حلقة إضافية لحلقات كتبنا الموسومة بمفاهيم الإسلام.

والله أسأل من بعد ذلك كله الإمداد والتوفيق في أن أكون بارّاً بكتابه متدبراً بآياته معتصماً بنهجه ومستنّاً بسنّة نبيه صلوات الله عليه وآله، فإن وُفقت في ذلك فالتوفيق منه سبحانه وتعالى وهو وليّه وواهبه ومعطيه، وإن لم أفعل فما هو إلّا جهد المقلّ المقصّر بين يدي العزيز الوهاب، متضرّعاً إليه أن يجعل ثواب ما كتبته ذخراً لي ولوالديّ وذريّتي وكل من له صلة بي إنه نعم المأمول ونعم الجواد والحمد لله أولاً وآخراً وصلاته وسلامه على نبيّه وأهل بيته أبداً.

 

جلال الدين علي الصغير

بغداد في التاسع والعشرين من شهر شعبان المعظّم 1433


[1] نستطيع ان نقسم ادوار الإمامة إلى مراحل عدة أولها عصر التأسيس والذي أطلق إشارته الرسول الأكرم صلوات الله عليه وآله ويشتمل هذا الدور على حركة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام والحسن والحسين عليهما السلام وطبيعة هذا الدور كان البدء بتأسيس المجتمع الشيعي وفرزه عمن سواه، فيما كان الدور الثاني والذي يمكن تسميته بعصر الإنتشار، وهذا ما نتلمسه من جهود زين العابدين والباقر والصادق والكاظم صلوات الله عليهم، وهذه الجهود كانت ترمي إلى الاستجابة لمتطلبات مرحلة التأسيس التي سبق لها أن أطلقت في الواقع الاجتماعي والسياسي مئات المفاهيم التغييرية والرافضة للكهنة السلطويين في المجتمع ولهذا كان عصر أئمة الدور الثاني قد شهد انتشاراً كبيراً لعملية التلقي الإيجابي لهذه المفاهيم، وقد سارت عملية الإنتشار ضمن مسارين عمودي يستهدف تحصين الواقع الذاتي للمجتمع الشيعي ومسار أفقي يستهدف الانتشار وتلبية أغراضه واستحقاقاته، وجاء الدور الثالث من هذه الأدوار والذي نطلق عليه اسم دور التأصيل ليعتني بعملية تأصيل وتقعيد الأفكار التي طرحت في الدور الثاني ولذلك كان طرح هذا الدور متميزاً بكثرة تطرقه لأفكار معرفة الإمامة ومنازل الإمام ومقاماته، ولعل المفاهيم المكثّفة التي طرحتها زيارة الجامعة الكبرى والتي نصّها الإمام الهادي عليه السلام تعطينا صورة جلية عن طبيعة هذا الدور، فيما كان دور الإمام العسكري والإمام المهدي المنتظر صلوات الله عليه في عهدي الغيبة الصغرى والكبرى يمثل الدور الرابع منها والذي نطلق عليه اسم التكريس والذي سيضطلع بعملية الاعداد والاستعداد للمجتمع من أجل تكريس وترسيخ الأفكار والمفاهيم وتحويلها إلى واقع اجتماعي، يتمكن من تمهيد الوعي للتعامل مع الدور الخامس وهو دور العدالة الإلهية، والذي سيضطلع به الإمام المنتظر عجل الله فرجه الشريف، والذي سيملأ بموجبه الأرض قسطاً وعدلاً.

وغني عن البيان أن هذه الأدوار ليست أدواراً حديدية بحيث اننا لا نجد ما يتعلق بالدور الأول في الدور الرابع والعكس بالعكس، بل إن مرادنا أن هذه الأدوار تميزت في صورتها العامة بما ألمعنا إليه من قبل، وهي عموما أدوار تكاملية يكمل أحدها الآخر.

[2] وأعني بذلك كتاب: الولاية التكوينية الحق الطبيعي للمعصوم عليه السلام، وكتاب: من عنده علم الكتاب؟ وكتاب: الإمامة ذلك الثابت الإسلامي المقدّس، بالاضافة إلى كتاب: عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية، والتي طبعت في أواخر تسعينات القرن الماضي.

[3] نسبة لأبي الحسن علي بن إسماعيل بن بشر الأشعري (ت330)، ومن أهم كتبه مقالات الإسلاميين واللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، وينسب إليه كتاب: الإبانة عن أصول الديانة، ويرى بعض مترجميه أنه مر بثلاثة أدوار، فدوره الأول كان رأيه مبنياً على الإعتزال، والدور الثاني هو أخذه أفكار عبد الله بن سعيد القطان المعروف بابن كلاب (ت240) وهو ما يظهر بوضوح في كتابه اللُمع في الرد على أهل الزيغ والبدع والمقالات، وهو هنا متناقض بشكل جذري مع عقيدة أحمد بن حنبل ومن سار مساره، أما الدور الثالث فهو الدور الذي يظهر فيه من خلال كتابه الإبانة عن أصول الديانة، وهو يتطابق إلى حد كبير مع أفكار السلفيين بل ويدافع عنهم، بل ويتراجع عن كل المعتقدات التي ذكرها في كتبه الأخرى ولا يأتي على ذكر أفكاره السابقة أبداً خصوصاً في مسائل الصفات والكسب مما امتاز به عن غيره، إذ يبدو فيه تجسيمياً بشكل واضح وإن قال بلا كيف!! ولهذا يرى العديد من الباحثين أن كتاب الإبانة محرّف عليه، ولعل ما ذكره ابن عساكر من كتبه وعدم عدّه لكتاب الإبانة منها، (انظر: تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: 39) وما هو أهم منه أنه نقل عن ابن فورك وهو من أبرز أعلام الأشاعرة حينما ذكر كتب الأشعري التي ألفها إلى سنة عشرين وثلثمائة ولم يذكر الإبانة فيها (تبيين كذب المفتري: 135)، ولعل هذا هو الأدق لأن تلاميذه ومن سار على نهجه كالفخر الرزاي وأبي حامد الغزالي ونظرائهم بقوا ملتزمين بأفكاره في شأن خلق القرآن وبمسائل نفي التجسيم والتشبيه، ويعود للأيوبيين الفضل الأكبر في نشر أفكاره حتى أصبح له تياره المعروف بالتيار الأشعري، وهم بهذا العنوان مكفّرون من قبل الكثير من كتّاب السلفيين المعاصرين، بل إن أي حديث لهم عن الجهمية والمعطلة إنما يقصدونهم هم ومن ماثلهم في شأن تأويل الصفات، وقد أزرى ابن تيمية بالأشاعرة حتى سماهم بمخانيث المعتزلة (انظر مجموع الفتاوى 6: 359) ونقل عن شيخ الحرمين الكرجي قوله:وقد افتتن أيضاً خلق من المالكية بمذاهب الأشعرية وهذه والله سبّة وعار، وفلتة تعود بالوبال والنكال وسوء الدار!! (نقض المنطق: 119).

[4] نسبة إلى مؤسسها محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي (ت333) وهي لا تختلف كثيراً عن الأشاعرة، إلا أن من الواضح أن غالبية الاحناف لا سيما في محيط الدولة العثمانية كانوا من انصار هذا الرجل ومن دعاته، والماتريدية والأشاعرة يختلفون مع السلفيين في جملة خصائص أهمها فيما يتعلق بالصفات إذ أن هؤلاء لا يقولون بالتجسيم على خلاف السلفية ويتأولون ذلك، وكذا في مسألة خلق القرآن إذ يتحدثون بخلق القرآن على خلاف أحمد بن حنبل ومن سلك سبيله من السلفية، ولذلك حظيت الماتريدية والأشاعرة فضلاً عن المعتزلة ـ كلا بحسبه ـ بإخراجهم من أهل السنة بزعم السلفيين واعتبارهم ضمن المرجئة والمعطلة، بل اعتبر أحد السلفيين: أن غالب رؤوس الشر والضلالة والإلحاد وفتنة خلق القرآن الحنفية الجهمية؛ الماتريدية!! (انظر عداء الماتريدية للعقيدة السلفية 1: 270).

ومن شخصياتهم البارزة المفسّر أحمد بن محمود النسفي (ت710) والمتكلم سعد الدين التفتازاني (ت792)، والشريف الجرجاني شارح المواقف (ت816).

[5] اي اضطرب في الحديث وتلعثم.

[6] أنساب الأشراف 3: 80 للبلاذري، وذكر ابن الأثير الجزري الخبر قريب منه إلا أن آخره كان فيه: لو يعلمون من علي ما نعلم، تفرّقوا عنا إلى أولاده. الكامل في التاريخ 4: 154.

[7] هذا لا يعني بالطبع أننا ننفي أن تكون الأبحاث السابقة لعلمائنا لم تعمد لذلك، بل بالعكس كانت هناك أبحاث رائعة من الكثير منهم، ولكنها ضاعت وسط الصخب المذهبي، ووسط أمزجة الناس، إذ من الواضح أن الناس تتلهف لأبحاث التفضيل، بشكل أكبر من مباحث التشريع، ففي تلك نكايات سياسية وإرواء لنهم الغضب الذي يسيطر عليها نتيجة للظلم والجور الذي يتسلط عليها، بينما هذه الأبحاث عادة ما تخرج عن إطار الأسماء وتفاصيل الوقائع السياسية والتاريخية، لتبحث بصورة عقلية بعيداً عن كل هذه الأجواء، مما يجعلها غير مستساغة، رغم ان نتائجها هي الأعظم وهي الأهم.

[8] وهنا تعرف مهازل الفكر السلفي حينما لا يسمح بالسؤال لمثل هذه الامور بل يعتبرها بدعة محرمة وضلال، كما يقول أبو حامد الغزالي في كتابه إلجام العوام عن علم الكلام: حقيقة مذهب السلف وهو الحق عندنا أن كل من بلغه حديث من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور: التقديس ثم التصديق ثم الاعتراف بالعجز ثم السكوت ثم الإمساك ثم الكف ثم التسليم لأهل المعرفة، ويعرف الغزالي مراده من الاعتراف بالعجز فيقول: أن يقرّ بان معرفة مراده ليست على قدر طاقته وأن ذلك ليس من شانه وحرفته، وأما السكوت فان لا يسأل عن معناه، ولا يخوض فيه، ويعلم أن سؤاله عنه بدعة، وأنه في خوضه فيه مخاطر بدينه، وأنه يوشك ان يكفر لو خاض فيه من حيث لا يشعر، ويعرف المراد بالكف: فان يكفّ باطنه عن البحث عنه والتفكّر فيه!. (إلجام العوام عن علم الكلام: 4ـ5)، وأطرف منه ابن تيمية فبعد ان يورد جملة من أحاديث السلف عن الصفات التجسيمية لله تعالى قال: إلى غيرها من الأحاديث، هالتنا أو لم تهلنا، بلغتنا أو لم تبلغنا، اعتقادنا فيها وفي الآي الواردة في الصفات أن نقبلها ولا نحرّفها ولا نكيّفها ولا نعطّلها ولا نتأوّلها وعلى العقول لا نحملها، وبصفات الخلق لا نشبهها، ولا نعمل رأينا وفكرنا فيها، ولا نزيد عليها ولا ننقص منها، بل نؤمن بها ونكل علمها إلى عالمها. (نقض المنطق: 124).

[9] مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 1: 39.

التعليقات
الحقول المعلمة بلون الخلفية هذه ضرورية
مواضيع مختارة
المقدمة
21552012-07-24
twitter
الأكثر قراءة
آخر الاضافات
المقدمة 2012-07-24
آخر التعليقات
facebook
زوار الموقع
20 زائر متواجد حاليا
اكثر عدد في نفس اللحظة : 123 في : 14-5-2013 في تمام الساعة : 22:42
عدد زوار الموقع لهذا اليوم :4361
عدد زوار الموقع الكلي: 24911012
كلمات مضيئة
قال الإمام الهادي عليه السلام: كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان.