بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة الشيخ جلال الدين الصغير

كيف يصل المنتظر إلى درجة الخدمة بلا مقابل، والصبر على الأجر بلا حدود؟



الوعد الصادق (منتظرون ٦): كيف يصل المنتظر الى درجة الخدمة بلا مقابل والصبر على الاجر بلا حدود؟

 

الجواب: كلما كان المحب مدركاً لأهمية المحبوب كلما نسى ذاته وتفرغ لما يرضي المحبوب، وتشمل هذه الحالة كل صور التفانى والذوبان التامين مع كل ما له علاقة بمحبوبه، حتى لو كان ذلك الذي له علاقة بالمحبوب اثر في تراب أو شمّة في هواء، ولعل التصوير الشعري الذي يقدمه مجنون ليلى يقرب لنا الصورة في مثل هذه الحالات إذ يقول:

مررت على الديار ديار ليلى... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا،

ولو ازداد في معرفة هذا المحبوب سيجد ان الوجود برمته يمثل هذا المحبوب، ويذكره به، ولو خلا هذا الوجود من هذا المحبوب لا يعود للوجود أهمية في نظره كما نستحصل ذلك من قول الامام الحسين عليه السلام في دعاء عرفة: ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك؟ فهنا ترى ان الفقدان والوجدان ارتبط بالمحبوب وليس بالمفقود والموجود الذاتي سواء كان ذلك ذاتاً او أي شيء يدلّ على هذه الذات او يرتبط بها، وهنا سنلاحظ انه ما عاد للذات صدى، وانما ستكون الذات مطواعة في التفاني من أجل رضا المحبوب والمعشوق.

ولا يتأتى كل هذا الحب إلا من خلال معرفة المحبوب والتعمق في ذلك، وهنا لا أتحدث عن العلم بالمحبوب، فالعلم يعطي صورة إدراكية عن المعلوم، ولكنها لا تنعكس بالضرورة على القلب لتتحول إلى معرفة، فكم وكم لدينا من أشخاص يمتلكون العلم ولا يعملون به، كما وصفهم القران الكريم {لم تقولون ما لا تفعلون} فالذي يقول يعلم بما يقول، ويدرك معناه، ولكن شتان ما بين العلم والمعرفة، فالمعرفة هي تغلغل المعلوم الى داخل القلب ليتحول الى حضور،  ولقد كان إبليس لعنه الله من المعظمين في علمه بالله تعالى، ولكن هذا العلم في إسار ذاته، ولذلك كان الحديث عن عبادته سنوات متمادية، وسجوده السجدات الطويلة، وإن كان تحكي علماً بما يفعل، ولكن علمه هذا الذي أدى به إلى أن يقوم بما يقوم به من عظيم الجهد في سبيل تسبيح الله وتمجيده لم يلج إلى شغاف قلبه، مما جعله يتأخر مرتبة عن ذاته، فذاته كانت متسلطة وأنانيته كانت أعلى صوتاً من علمه، فقام بما قام به من عصيان، فاستحق الطرد واللعن الدائمين، وفي قبال ذلك ارجع إلى قصة همام العابد رضوان الله تعالى عليه كيف تراه يصعق ويسقط مغشياً عليه قد أسلم الروح وهو يسمع لأمير المؤمنين يحدّثه عن صفات المتقين، إذ نجد هذا الرجل كان حديث العلم قد تسلل الى أعماق جوانحه، وبمجرد أن علم حتى سحق ذاته من أجل ما قدّم إليه من علم، حتى قال عنه أمير المؤمنين عليه السلام: أهكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها؟ انظر نهج البلاغة الخطبة: ١٩٣.

بطبيعة الحال فإن المحبوب كلما كان محتواه عميقاً كلما بدرت من المحبين أعمالاً قد يعدّها البعض خارج نطاق العقل البشري، ولك في طبيعة عشق أمير المؤمنين عليه السلام لرسول الله صلوات الله عليه وآله حينما بات في فراشه منتظراً للقتل، فلم يك منتظرا لهجوم السيوف عليه، بل كان حريصاً كل الحرص على أن يتحمل وقتاً أكبر من الألم ليطيل بهذا الوقت مجال النجاة لرسول الله صلوات الله عليه وآله، وانظر إلى فعل الإمام الحسين عليه السلام حينما يتلقى كل هذه المحن العظيمة، والمصائب الفادحة، وهو يناجي ربه وهو في اللحظات الأخيرة لمقتله بأبي وأمي: إلهي خذ حتى ترضى لا معبود سواك، فهذا المعبود الذي استولى على كل كيان الإمام الحسين عليه السلام، فنسي ذاته بشكل تام، كان محتواه عظيماً مما جعل محبيه يقدّون صوراً عظيمة تتعدى الواجب والمستحب إلى الإباحة المطلقة في أن يسدر عليهم ما يسدر من أجل نيل رضى المحبوب، والذي يمثل الهدف الأعظم لهم، ولك أن تتأمل الصورة التي تغادر حسابات العقل البشري المعتاد وأنت ترى العباس عليه السلام وهو الذي أخذ العطش منه مأخذه العظيم، ماذا يفعل مع الماء حينما يصل إليه، وتتبدى من كمات صلوات الله عليه طبيعة عشقه للحسين عليه السلام حينما يخاطب نفسه: 

يا نفس من بعد الحسين هوني... وبعده لا كنتي أو تكوني

هذا العشق الذي تتهاوى العقول والقلوب أمامه راضخة لا تجد جواباً ولا تحير خطاباً.. وأين ذلك من عشق مجنوناً لليلاه او كثير لعزة وغيرهم ممن تعلقوا بمعشوقين ذوي محتويات لا تتسم بالعمق، فلم تسع أن تبدي عظمة الكمال الإنساني كما رأيناه في الصور المتقدمة.

من هنا نلاحظ في زيارة الحسين عليه السلام حديث الامام صلوات الله عليه وهو يصعّد في درجة الزائر ومقامه وفقاً لدرجة معرفته بالحسين، فتارة تجد ان الزائر يحصل بزيارته على درجة وأخرى تجد هذه الدرجة ترتفع بشكل كبير جداً، وما ذاك إلا بسبب درجة المعرفة بالإمام عليه السلام، هذه المعرفة التي تجعل قلوبهم وجوارحهم وجوانحهم تتحرك وتنطق، وليس مجرد ألسنتهم، ومن هنا نجد كثيراً من الزيارات تم تقييد ثوابها بدرجة المعرفة هذه فقيل مثلاً: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من أتى قبر الحسين (عليه السلام) عارفا بحقه كتب الله له أجر من أعتق ألف نسمة وكمن حمل على ألف فرس مسرجة ملجمة في سبيل الله. الكافي ٤: ٥٨١ ح٥

أو مثل ما يتبدى من جواب الامام الصادق لعبد الله بن ميمون القداح حينما سأله وقال:  قلت له: ما لمن أتى قبر الحسين بن علي (عليهما السلام) زائرا عارفا بحقه، غير مستنكف ولا مستكبر، قال: يكتب له الف حجة مقبولة والف عمرة مبرورة، وإن كان شقيا كتب سعيدا ولم يزل يخوض في رحمة الله.. كامل الزيارات: ٢٧٤ ب٥٧ ح٣.

وهنا ترى في قوله عليه السلام: لم يزل يخوض في رحمة الله، ما يشعر أن مقام الزائر يبقى قابلاً إلى أن يتنامى ويتعاظم، إلى أن تجد المقام يصل إلى تصوير الزائر وكأنه يزور الله في عرشه، كما نلاحظ ذلك في قول الامام الصادق عليه السلام لبشير الدهان: يا بشير من زار قبر الحسين (عليه السلام) عارفا بحقه كان كمن زار الله في عرشه .. كامل الزيارات: ٢٨٢ ب٦٠ ح١١.

وهذا التعبير الكنائي عن عظمة المقام الذي يصله هذا الزائر ما كان ليكون إلا بسبب خصيصة ما يعبر عنه الإمام عليه السلام بالزيارة المبتنية على معرفة حق المزور.

ومع اننا نرى ان نكران الذات الذي نراه من خدام الزوار يصل إلى درجات عظيمة، غير أنك لو دخلت إلى شغاف قلبه لوجدته يشعر بالتقصير، ولا يجد أنه قدم ما يتوجب عليه تقديمه، وكل ذلك يجري في بدايته طلباً للثواب والأجر، ولذلك قد ترى البعض يمارسه وكأنه يريد أن يسقط واجباً، ولكن مع تقدّم المعرفة يتماهى شعور الواجب والاستحباب وطلب الثواب وما إلى ذلك ليحل محله أمر آخر هو العشق الذي لا يمكن أن يفسر بهذا المنطق، فلغة القلوب لا يستدلّ عليها بأدوات البحث العلمي المعتاد فنسأل عن دواعي فعلها وموجباته، وإنما لا يفقه هذه القلوب إلا من سار على دربها وتماهت ذاته في محتوى معشوقها، ولذلك قد ترى واحدهم ليس له نصيب من العلم، ولكن محتواه الداخلي مما تخشع له قلوب العلماء.

ومن سار في هذا الطريق سيجد الكثير من الألطاف التي تعينه على هذه المعرفة، وسيحس في داخله توارد أفكار ومفاهيم لم يألفها من قبل، ولم يتعلمها في كتاب، وما كان هذا إلا نتاج التلاقح بين المحبوب ومحبه فيفيض هذا الحب قابلية على المحب لكي يزداد من الانتهال من ورد معرفة المحبوب، وهكذا يبقى هذا التلاقح لينتج كمالاً يتنامى، وتفانياً يتصاعد وعنده ستجد سر وفاء العباس عليه السلام وفدائية عابس ووله حبيب وبقية الاصحاب، إذ كانوا عشاقاً قبل أن يكونوا أي شيء آخر فحازوا في سباق العشق قصب السبق الذي شرفهم حينما وصفهم الحسين عليه السلام:فانى لا أعلم أصحابا ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أصحابي وأهل بيتي فجزاكم الله عنى خير الجزاء. روضة الواعظين: ١٨٣.

التعليقات
الحقول المعلمة بلون الخلفية هذه ضرورية
مواضيع مختارة
twitter
الأكثر قراءة
آخر الاضافات
آخر التعليقات
facebook
زوار الموقع
22 زائر متواجد حاليا
اكثر عدد في نفس اللحظة : 123 في : 14-5-2013 في تمام الساعة : 22:42
عدد زوار الموقع لهذا اليوم :3235
عدد زوار الموقع الكلي: 24909886
كلمات مضيئة
الإمام الصادق عليه السلام: كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل.. والمقصود: كل راية تدعي المهدوية