بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة الشيخ جلال الدين الصغير

١٣٧٥: كيف يتم التوفيق بين ملك الامام المهدي عليه السلام، وبين ملك النبي سليمان عليه السلام الذي اراده ممتنعاً على غيره من بعده



Muhammad alsayegh (تعليقات قناة اليوتيوب): السلام عليكم شيخنا، وفقكم الله، برجاء بحث آية (قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِی وَهَبۡ لِی مُلۡكࣰا لَّا یَنۢبَغِی لِأَحَدࣲ مِّنۢ بَعۡدِیۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ)[سورة ص 35] ، وكيفية انسجامها مع مقومات حكومة دولة الامام المهدي المنتظر ارواحنا لمقدمه الشريف الفداء، وهل دعوة نبي الله سليمان عليه وعلى نبينا واله التحية والسلام مطلقة؟ ام كيف يتم التوافق بين المقومات التي يسخرها الله للامام المهدي مع دعوة النبي سليمان والتي اغلقها عن من بعده؟

الجواب: من المعلوم أن العطاء الإلهي حينما يصدر من الله تعالى يكون متاحاً لجميع عباده، ولكن قابليات عباده هي التي تحدد حجم ما يأخذونه من هذا العطاء، فالله تعالى عظيم العطاء ولكن من يأتيه بقلب لا يستوعب من هذا العطاء إلا بمقدار منه، فإنه لن يأخذ من هذا العطاء إلا بقدر ما تتيح له قابلياته لا بقدر ما أتاحه الله جل وعلا، بمعنى أن التخلف هنا عن أخذ كل العطاء المتاح لا يتعلق بالعلة الفاعلة، وإنما بقصور العلة القابلة، ولذلك حينما ننظر الى الآية الكريمة نجد أنه طلب أن يؤتيه الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، ومن البديهي أن تلبية طلبه هذا سيكون منسجماً مع قدرات سليمان عليه السلام وقابلياته، ولهذا آتاه الله من الآيات ما جعل الرياح مسخرة له وكذلك الجن جعلهم طوع يديه، وهو عطاء لم يحصل أن أعطي لملك من قبل، ولكن هل بالامكان أن ينحصر هذا العطاء به دون غيره ممن سيأتي بعده، أم أن هذا الطلب محدد بحدود لا يتعداها، بحيث لا نرى فيه طلباً يقيّد كل ما سواه ممن هو بعده؟

من الواضح إن الطلب مقترن بجهتين أولها جهة المعطي، وهنا لا يمكن القول بأن الطلب سيقيّد إرادة المعطي، فهو أمر لا يصح لا من جهة خصوصيات المعطي جل وعلا، ولا من جهة الطالب وهو النبي المعصوم المدرك لحقائق التوحيد، ولهذا فإن حدود العطاء غير مقيّدة في أصلها، وبطبيعة الحال فإن الطلب لا يمتلك قدرة التقييد لانه سالب بانتفاء موضوعه، وثانيها من جهة قابلية الطالب، فكما قلنا إن قابلية الطالب هي التي ستحدد المأخوذ من العطاء، ولهذا فلو أن من له قابلية اعظم من النبي سليمان، فإن الحصر المشار إليه بالطلب لن يحول دون بلوغ صاحب القابلية الأعظم من الوصول إلى ما هو أعظم مما أعطي لسليمان عليه السلام، ولا نجد في الإجابة الربانية على سؤاله إلا أنه أوتي ملكاً كبيراً ولكنه لا يستوفي كلمة "من بعدي" بحيث أن هذا الملك لن يحظى به أحد غيره من بعده، ولا يتنافى ذلك مع إجابة الله لدعاء من دعاه، لأن الإجابة لا تشترط تحقق جميع ما تم طلبه، خاصة وأننا قد نجد أن القصور لا يتعلق بالفاعل وإنما بالقابل.

ولبيان ذلك نقول: إن الله تعالى أجاب سليمان بقوله: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ•• وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ••وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [سورة ص: ٣٦-٣٨] وهذا المقدار من التسخير لا يمثّل كل ما سخّره الله تعالى لعباده، بل إننا نجد أن الله جل وعلا في قوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ } [سورة الجاثية: ١٣] قد أظهر أن ما حظي به سليمان لا يمثل الا صورة مصغرة جداً عن التسخير العام الذي عرضت له الاية الكريمة، وعندئذ علينا أن نتساءل عن هذا الذي سخر له ما تم عرضه في سورة الجاثية؟ لأن الله ما سخر إذ سخر إلا بسبب وجود من له قابلية استخدام هذا التسخير، والا اختل ميزان الحكمة من خلق هذا التسخير!.

وبناء على كل ذلك سيعرض لنا هذا الأمر وهو: هل يوجد من هو أعظم قابلية من سليمان عليه السلام؟ فإذا أحرزنا وجود من هو أعظم قابلية منه، فإن هذا الحصر في الملكية والتسخير سيتلاشى، وللعثور على ذلك يمكننا التحاكم إلى أمر هو أعظم مقاماً من مقام التسخير، بل إن التسخير يمثل أحد مفردات ذلك الأمر، وأعني بذلك أمر الأمانة الربانية، فقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: ٧٢] عرض لأمر هو أعظم من نفس ما تم تسخيره، إذ من البين هنا أن المسخرات هنا لم تتحمل هذه الأمانة وأشفقن منها، مما يعني أنه أصغر من هذه الأمانة، ومن الواضح أن هذه الأمانة التي ستتفاوت نسب حملها بناء على قابليات الإنسان في بعده عن الظلم والجهل، قد تم حملها بشكل كامل، مما يعني بداهة وجود الإنسان الذي طهرت نفسه من أي شيء يسمى ظلماً أو جهلاً مهما دقّ او صغر، وقد اتفق أهل التفسير العامة والخاصة على أن هذا المقام خاص برسول الله صلوات الله عليه واله، ومعه يمكن امتداده لكل من يقوم مقام الرسول الأعظم صلوات الله عليه وآله،  فتنبه!

وكيف لا يحملها مثل هؤلاء الأفذاذ؟ وقد سبق أن أوصلتهم قابلياتهم إلى ما هو أعظم من الأمانة، بل إن الأمانة هي أحد مفردات ذلك، وأعنى بذلك تنصيبه في مقام الخلافة الالهية التي عجزت قابليات أعاظم الملائكة من أن يتولوها، فلقد عرضت قابلياتها العظمى لكي تقوم هي بدور الخلافة {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة: ٣٠] ولكن الله أشار إلى وجود قابليات أعظم من قابلياتها، وهي بعد ان أطلعت على ذلك اذعنت لذلك وقالت: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} ولك أن تتصور موضع التسخير السليماني الى موضع من جعله الله خليفة له على كل شيء.

ويترتب على كل ذلك ما يلي:

أولاً: إن سليمان أوتي ملكاً لم يماثله أي ملك.

ثانياً: إن هناك مقامات في شأن التسخير أعظم من مقام ما سخر للنبي سليمان عليه السلام وهي بهذا تنفي أن ينحصر العطاء الممنوح لسليمان عن كل من يأتي من بعده.

ثالثاً: إن هناك مقامات مهيمنة على كل التسخير الذي أولاه الله تعالى في هذا الكون وهي مؤتمنة عليه، بسبب قابلياتها الإستثنائية، وهذه المقامات ليست مقامات افتراضية، وإنما هي مقامات منجزة تاريخياً بدليل قوله تعالى: {وحملها الإنسان}.

رابعاً: إن هناك مقام أعظم من مقام الأمانة وهو مقام الخلافة الربانية، وهو مهيمن على كل متعلقات الأمانة وما سواها، وهو أيضا ليس افتراضياً وإنما له مصاديقه التاريخية، وهو يتعلق جزماً بأصحاب قابليات عظمى لا يضاهيها أحد، ولا يصل إليها أحد، وإلا ما نالت ما نالته، ولا بلغت ما بلغته.

خامساً: إن المقدرة على ملك لا تعني بالضرورة أن على المقتدر عليه أن يظهره، إذ من الممكن أن يستغني عنه أو أنه لا يرى ما يستدعي منه أن يبرز هذه المقدرة، كما الغني إذ يعزف عن شراء ما لا يحتاجه.

يبقى الكلام في أصحاب هذه القابليات العظيمة التي لا تضاهيها أي قابليات أخرى، والحقيقة أنك لو فتشت في كل القرآن من أوله إلى آخره فلن تجد أن الله أشار إلى قابليات أعظم من تلكم القابليات التي أشار إليها في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: ٣٣] ولك من بعد ذلك أن تنظر إلى طبيعة ما آتاهم الله جلت آياته قياساً إلى ما آتاه للنبي سليمان عليه السلام ولغيره، واذا جمع كل ذلك للإمام المهدي عليه السلام فلك أن تقيس هذا الأمر من خلال المقام العظيم الذي وضعه الله فيه، وهو مقام سبق لآبائه الطاهرين صلوات الله عليهم أن نالوه بمقدار زمانهم، ولكن في حدود الزمان والمكان فإن ما حظي به روحي فداه لم يحظ به أحد من العالمين، وأعني بذلك قوله تعالى: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ [هود: ٨٦].

وخلاصة القول: إن سليمان عليه السلام طلب من عطاء الله فآتاه الله ما يتناسب مع شأنيته، وقد أخذ منه ما مكّنته منه قابلياته الذاتية، وهذا لا يقاس بالامام المهدي روحي فداه وإمكانات ملكه، ولا يقدح في ذلك ما يمكن أن يقال بأن تسخير الجن وتداخلهم مع البشر بالطريقة التي كانت في زمن سليمان عليه السلام كان ممكناً في ذلك الوقت، ثم تم حجرهم عن ذلك كما هو الحال في قصة استماعهم لاهل السماء قبل بعثة الرسول صلوات الله عليه واله، ثم حجرهم عن ذلك بعد البعثة المباركة، وهذا الامر مع إمكانه العلمي، ولكنه في نفس الوقت لا ينفي عن الإمام المهدي عليه السلام التصرف بمثل ذلك، فهذا الحجر لا يعني انتفاء الإمكان التكويني، بل هو حجر موقوف لأغراض الزمان والمكان، ويمكن أن يسري نفس هذا المبدأ على تسخير الرياح مع حفظ النسبة، فتأمل!

 

التعليقات
الحقول المعلمة بلون الخلفية هذه ضرورية
مواضيع مختارة
twitter
الأكثر قراءة
آخر الاضافات
آخر التعليقات
facebook
زوار الموقع
5 زائر متواجد حاليا
اكثر عدد في نفس اللحظة : 123 في : 14-5-2013 في تمام الساعة : 22:42
عدد زوار الموقع لهذا اليوم :8459
عدد زوار الموقع الكلي: 26620398
كلمات مضيئة
اللهم صل على محمد وال محمد